* تم إعادة نشر القصة لتعديل طريقة كتابة اسم محلل بناء على رغبته

يبدو أن أحلام السودان بالديمقراطية وانتقال سلمي للسلطة تتبدد بعد أكثر من 4 سنوات من الإطاحة بنظام عمر البشير من الحكم، في ظل تكالب القادة العسكريين المسلحين بعتاد الحرب والأموال على الحكم، ورغبة كل منهم الانفراد بالسلطة.

انقلاب عسكري وقتال دامي واحتجاجات واتفاقات سياسية عالقة هذا هو حال السودان منذ استيلاء الجيش على الحكم في أبريل 2019، لكن يبدو أنه واقع لا مفر منه -في الوقت الراهن على الأقل- في ظل وجود عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلد، على رأس الجيش السوداني بقيادة مجلس السيادة وهو السلطة المسؤولة عن الإشراف على المرحلة الانتقالية في البلد.

وكذلك مع استمرار محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي كقائد لقوات الدعم السريع.

ولطالما عانى السودان - منذ استقلاله قبل أكثر من 6 عقود - من الحكم العسكري الذي تخللته مقتطفات خاطفة من الديمقراطية، ويبدو أن إطاحة البشير، التي أحيت آمال الحرية والديمقراطية، أسست في الوقت نفسه لهيمنة عسكرية جديدة يشهد السودان تبعاتها اليوم.

من المُلام؟
منذ منتصف أبريل الماضي تدور اشتباكات دامية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أوقعت مئات القتلى من المدنيين وسط تحذيرات أممية بتدهور سريع للوضع الإنساني في ثالث أكبر بلد إفريقي من حيث المساحة، فيما يُعتقد أنه صراع حول جدول عملية دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وهي عملية تأتي ضمن بنود اتفاق إطاري بين القوى المدنية والجيش، وكذلك حول تقاسم السلطة بين القوتين العسكريتين.

وقوات الدعم السريع هي قوة شبه عسكرية قوامها حوالي 100 ألف جندي ولديها صفة قوة أمن مستقلة بموجب قانون أُقر في عام 2017، واستُخدمت كحرس حدود سابقا، وهي متهمة بارتكاب انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان، وكان قائدها حميدتي حليف سابق للبرهان وللبشير قبل أن ينقلب عليهما الاثنين بسبب خلافات سياسية.

وبعد اندلاع الاشتباكات الأخيرة أصدر البرهان قرار بحل قوات الدعم السريع وإقالة حميدتي من منصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي.

وتنقسم الآراء حول من المُلام على الصراع القائم بالسودان حاليا؛ هل هو البشير باعتماده على جماعات مسلحة؟ أم هو الهيكل المدني العسكري للحكومة السودانية السابقة الذي ركز السلطة في يد العسكريين؟ أم الغرب الذي فشل في فرض عقوبات على البرهان وحميدتي حين انقلابا سويا على الحكومة المدنية في أكتوبر 2021؟.

"دولة داخل دولة"

يوضح المحلل والأكاديمي السوداني مجدي الجزولي من معهد "ريفت فالي" للأبحاث الذي تأسس عام 2001 في السودان، في حديث لزاوية عربي، أن نشأة قوات الدعم السريع تعود إلى عام 2003 حين "أوكل الجيش لدرجة كبيرة مكافحة تمردات دارفور لمليشيات محلية (الجنجاويد)، ثم صارت هذه الأعمال الحربية أعمال تجارية".

وقال الجزولي: "الدعم السريع اليوم في صورة من الصور شركة أسرية للحرب والاستثمار إذا جازت العبارة".

وأرجع المحلل الدافع المباشر للصراع الدائر حاليا في السودان إلى "أن هذه الشركة الأسرية الحربية صارت دولة داخل دولة، بل وصار طموح أصحابها ابتلاع جهاز الدولة كله بما في ذلك القوات المسلحة السودانية". وتتكون قوات الدعم السريع من أفراد قبائل تربطها صلات شخصية ومصالح.

وبالمثل قال المحلل كاميرون إيفرز من شركة "إميرجينت ريسك إنترناشونال" المتخصصة في التحليلات الاستراتيجية والاستشارات ولديها مكاتب في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإيرلندا وسنغافورة: "يبدو أن حميدتي ظن أن أكبر فرصة للاحتفاظ بالاستقلال (لقوات الدعم السريع) هي محاولة الانقلاب".

ويوضح إيفرز أن الاتفاق بين الجيش والفصائل المدنية كان على تشكيل كيان أمني موحد تقوده حكومة مدنية وهو أمر "يبدد استقلال قوات الدعم السريع"، حيث كان من المقترح أن تبدأ حكومة جديدة عملها في 11 أبريل الماضي، لذلك يقول المحلل: "قرر حميدتي إطلاق هجومه".

ويرفض البرهان رغبة حميدتي في أن تتجاوز عملية دمج قوات الدعم السريع في الجيش 10 سنوات ويريدها في نحو عامين، وأدى هذا الخلاف إلى تأجيل توقيع اتفاق تدعمه أطراف دولية مع القوى السياسية بشأن الانتقال إلى الديمقراطية بعد الانقلاب العسكري الذي قام به البرهان على حكومة مدنية في عام 2021.

ووفق المحلل إيفرز، فرفض البرهان رغبة حميدتي بشأن الجدول الزمني للدمج  يُظهر أن "البرهان أخيرا قرر أنه بحاجة إلى وضع حد لصعود حميدتي السريع إلى السلطة، والذي ظل حتى الآن دون رادع من قبل معظم القوى السياسية".

 والبرهان هو الزعيم الفعلي للسودان منذ الإطاحة بالبشير، وتوصل إلى اتفاق مع القوى المدنية لتقاسم السلطة في خارطة طريق تستغرق ثلاث سنوات وصولا إلى الديمقراطية. لكن في خضم الصراع الأخير قال حميدتي إن البرهان "فقد شرعيته" ويقود "انقلاب" بالبلاد.

إلى متى سيطول الصراع؟

تخطى الاقتتال الدائر في السودان شهره الأول، فيما تسود حالة عدم يقين عن الأمد المتوقع لاستمراره مع تعثر جهود الوساطة في الوصول إلى اتفاق ينهي بشكل دائم إطلاق النار بالبلاد، فيما لا يبدو أن أيا من الطرفين المتناحرين قد أفرغ كل ما في جعبته.

ويمتلك الجيش السوداني وقوات الدعم السريع الأسلحة الموجودة في السودان، ولديهما حصص كبيرة في شركات حكومية وأخرى خاصة وفي مناجم ذهب وعمليات نفطية، وفق تقارير إعلامية.

ويرى المحللان إيفرز وأندرو إي. تشي الباحث بالمعهد النرويجي للشؤون الدولية للأبحاث، في حديثهما إلى زاوية عربي، أن دائرة العنف هذه على الأرجح ستستمر، لكن ليس على نطاق كبير، نتيجة للقيود اللوجستية والبشرية.

لكن في الوقت نفسه، أشار المحلل إيفرز إلى أن الجيش السوداني يمتلك مصنع للأسلحة وهو ما قد يطيل أمد قدرته على الاستمرار في الصراع، فيما ستستمر قوات الدعم السريع بالاعتماد على معاقلها في دارفور والمساعدات عبر ليبيا من الحلفاء الخارجيين، وغيرها من الموارد التي ستلبي احتياجاتها من الإمدادات على المدى القصير.

وتوقع إيفرز "في ظل غياب حل سياسي على المدى القريب أن يستمر هذا (الصراع) على مدار عام 2023 في حال عجزت جهود الوساطة الجادة عن التأثير على الجنرالين (البرهان وحميدتي)".

غير أن المحلل تشي يعتقد أن "هذه الحرب على الأرجح ستخمد"، مرجحا توصل الجانبين إلى نوع من الاتفاق، لكنه أشار إلى أن "القضية الرئيسية هنا هي إلى مدى سيصمد هذا الاتفاق". وهنا يرى إيفرز أن الاتفاق لن يكون دائم على الأرجح "لأن المتشددين في معسكر البرهان يريدون رحيل حميدتي إلى الأبد، وهو ما قد يحد من قدرته على تقديم تنازلات".

من سيقود الوساطة؟ ولماذا؟

توقع المحلل إيفرز من شركة "إميرجينت ريسك إنترناشونال" أن تكون "الوساطة العربية الأوفر حظا في ممارسة الضغط" على القادة العسكريين في السودان، لكنه قال إن الولايات المتحدة ستسعى على الأرجح ليكون لها دور سياسي في تلك العملية.

وتوسطت الولايات المتحدة والسعودية بالفعل في هدنة لوقف إطلاق النار بين طرفي الصراع في السودان بدأت الأسبوع الأخير من شهر مايو. بينما تستضيف جدة جولات مستمرة من المحادثات بين وبشأن طرفي النزاع.    

وأرجع المحلل توقعه بسعي الدول العربية لإنهاء الصراع إلى أن "هذه الدول على الأرجح ترغب في حماية مليارات الدولارات التي استثمرتها في السودان" على عكس الدول الغربية، موضحا أن "الإمارات لديها حصص هائلة في بورتسودان"، فيما تسعى السعودية لتحويل السودان إلى مصدر لإنتاج الحبوب للمملكة.

وتسعى الإمارات في إطار اتفاق مع السودان لاستثمار 6 مليار دولار إلى إنشاء وتشغيل ميناء أبو عمامة على البحر الأحمر شمال ميناء بورتسودان -الذي تمر عبره الغالبية العظمى من واردات السودان- سيضم منطقة تجارية ومطار ومنطقة زراعية.  

فيما تجمع السعودية والسودان شراكة بموجب قانون أُقر عام 2016 يسمح للمملكة بزراعة واستصلاح مليون فدان بالسودان بعقد يمتد لـ 99 عام ويشمل استثمارات سعودية بمليارات الدولارات.

دور مصر و"العبء الأمني"

أما الدور المصري المحتمل في الوساطة فأرجعه المحلل إيفرز إلى أن مصر لديها علاقة خاصة مع السودان تركز على الجانب الدفاعي وتعود إلى الحقبات الاستعمارية، إلى جانب هذا "كانت مصر ترى السودان في الماضي كعبء أمني يجب ترويضه".

وبعد بضع أيام من اندلاع الصراع الأخير في السودان، أعرب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أكثر من مرة -إحداها كانت مع نظيره الجنوب سوداني- عن استعداد مصر للوساطة وللعب دور إيجابي في استعادة الاستقرار في السودان، مشددا في الوقت نفسه على أن ما يحدث في البلد هو شأن داخلي وأن موقف مصر هو عدم التدخل في شؤون الدول.

فضلا عن هذا، يرى المحلل أن مصر التي لا تزال "تشعر بمرارة من استضافة السودان لشخصيات من (جماعة) الإخوان المسلمين في أعقاب الانقلاب في مصر عام 2013...حريصة بشكل شبه مؤكد على بقاء شخص غير إسلامي مثل البرهان على رأس السياسة في السودان". 

والسيسي -الذي كان يرأس الجيش المصري قبل ان يصبح رئيس البلاد - كان قد أطاح بحكم الإخوان المسلمين في 2013 بعد خروج مظاهرات عارمة ضد الإخوان. ويرى البعض أن هذا الإجراء كان انقلاب على حكم الإخوان الذي جاء بالانتخاب المباشر من الشعب، بينما أيده آخرون ورأوه مخرج من حكم الإخوان الذي تظاهر عدد كبير من المصريين ضده قبل الإطاحة به.

ومنذ رحيل البشير عن الحكم، يرى محللون أن قوى إقليمية -منها مصر التي تصنف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية- ترى الجيش السوداني أفضل حليف لها في السودان، في ظل عدم رغبتها في عودة الإسلاميين من جديد بعد إطاحة نظام البشير، الذي كانت الحركة الإسلامية المكون الرئيسي لحزبه الحاكم.

ماذا عن انتقال السلطة؟

يتفق المحللون، الذين تحدثوا لزاوية عربي، على أن الانتقال السلمي للسلطة في السودان هو أمر مستبعد في الوقت الراهن -على الأقل- نتيجة لعدة عقبات.

فوفق المحلل إيفرز "يظل الانتقال السلمي أمر غير محتمل في حال بقاء القائدين العسكريين" على رأس الجيش وقوات الدعم السريع، موضحا: "من المحتمل أنهما لا يزالان ينظران إلى الصراع على أنه طريق نحو إجبار (الطرف) الآخر على تقديم تنازلات، ومن المحتمل أنهما يران نفسيهما متكافئين بما يكفي لإبقاء الخيار العسكري قائم".

وتابع أن الجيش وقوات الدعم السريع "يظلان أقوى مؤسستين" في البلد، وأن السيطرة العسكرية كانت الغالبة على التاريخ الحديث للسودان، وهو أمر -يرى المحلل- أنه "كان يعيق بالفعل التقدم في محاولات تشكيل حكومة مدنية مرارا في الفترة بعد عام 2019".

وأضاف: "التنافس بينهما حاليا تعمق ربما بشكل لا يمكن إصلاحه، مما يتطلب خسارة أحدهما لعودة المحادثات الانتقالية إلى الطاولة حيث من المحتمل أن يكون (إحراز) تقدم طويل وصعب بالنسبة للجانب المدني".

ومما يعيق أيضا السلام وبالتالي الانتقال السلمي للسلطة في السودان، وفق المحلل  تشي من المعهد النرويجي للشؤون الدولية، هو "التركيز الكبير على القادة (العسكريين) دون التركيز بشكل كافي على استدامة السلام"، وقال إن الوصول إلى الديمقراطية "سيحتاج إلى وقت طويل للغاية".

وبغض النظر عن المنتصر في هذا الصراع، يتوقع المحلل إيفرز من "إميرجينت ريسك إنترناشونال" أن تستمر على الأرجح هيمنة الجيش على شؤون الحكومة في السودان، في استمرار للنهج الذي غلب على كثير من تاريخ البلد.  

ويشير المحلل تشي إلى أن هيمنة وتدخل الجيش هذه هي نتيجة الحياة السياسية المدنية الضعيفة حيث يفتقر السودان وجود حزب سياسي مدني مهيمن لقيادة المرحلة الانتقالية.

وقال: "على مدى عقود، شجع هذا مرارا وتكرارا الجيش على التدخل، وبالتالي خَلق ذريعة جاهزة للتدخلات المستقبلية. وهذا يعني أن الجيش كان أكثر نجاحا من المدنيين في حكم السودان، مما سمح لقوات الأمن بالتركيز على إعادة هيكلة الدولة والسيطرة عليها".

وكان من المفترض أن يفضي الاتفاق السياسي الإطاري الموقع بين الجيش والقوى المدنية في ديسمبر الماضي، والذي كان يُعتبر خطوة لاستعادة فترة انتقالية مستدامة، إلى توقيع اتفاق سياسي جديد في أبريل الماضي لتشكيل حكومة مدنية وإطلاق مرحلة انتقالية جديدة صوب إجراء الانتخابات تأجلت.  

لكن مصير الاتفاق بات غامض في ظل الصراع المسلح الدائر في البلد.

ويرى المحلل إيفرز أن "الاتفاق الإطاري يواجه تحديات خطيرة وقد لا يتجدد بنفس صيغته بعد القتال".

فيما يعتقد المحلل تشي أن "الاتفاق لن يدوم كثيرا"، مرجعا ذلك إلى وجود العديد من القضايا العالقة التي لم يحلها الاتفاق بالأساس، مشيرا إلى أن هذه القضايا تحتاج إلى خطوات عملية وأنها ستُعيق أي جهود مستقبلية للانتقال السلمي للسلطة.

أما المحلل السوداني الجزولي فيرى أنه "لا يمكن في الوقت الحاضر الحديث بأي درجة من درجات الجدية عن الاتفاق الإطاري"، معتبرا أنه "قد صار بالحرب تاريخا".

(إعداد: مريم عبد الغني، تحرير: ياسمين صالح، للتواصل zawya.arabic@lseg.com)

#تحليلمطول

لقراءة الموضوع على أيكون، أضغط هنا

للاشتراك في تقريرنا اليومي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية، سجل هنا